الطبيعة العمانية المتنوعة تلهم الإبداع البصري

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


مسقط في 7 يوليو /العُمانية/تشكل البيئة العُمانية بثقلها الروحي
والتاريخي، وثرائها الجغرافي الممتد عبر مختلف التضاريس المتنوعة الحاضن الأول
لوعي الفن التشكيلي والتعبير البصري عن الأفكار والمشاعر التي يعتمد عليها الفنان
في إيصال رسالته أو نقل قصة معينة للجمهور.

ويقول الفنان التشكيلي فهد بن سالم المعمري إن تجربته الفنية لم تكن
يومًا بمنأى عن المجتمع الذي ترعرع فيه، والمتمثل في الذاكرة الثقافية والتضاريس
المتنوعة وملامح الأهالي وأصوات الحياة اليومية التي أسهمت بشكل كبير في تشكيل
ذائقته البصرية.

ويعتقد الفنان في حديثه لوكالة الأنباء العُمانية بأن علاقته الوجدانية
بالفن هي التي منحت أعماله صدقًا وتواصلًا حقيقيًّا مع المتلقي من خلال تجسيد
العادات والتقاليد واللباس والتفاصيل اليومية والمناسبات الاجتماعية وحتى الألوان
التي تميز بها المحيط العُماني كمفردات بصرية عُمانية.

ويضيف أن ‎تعددية
الجغرافيا في سلطنة عُمان ليست فقط تنوعًا في المشهد، بل هي تنوع في الرواية
البصرية والثقافية ما يدفع الفنان للتماهي مع أكثر من فضاء، ويمنحه قدرة على
التأمل من زوايا متعددة، موضحًا أنه عندما يقوم برسم قرية في جبال الحجر، يشعر أنه
يرسم ذاكرة عتيقة، وكذلك الحال بالنسبة للساحل والبادية مما يمنحه من أدوات متعددة
واكتشاف جماليات جديدة في إطار المحافظة على الأصالة.

ويقول المعمري: “تعلمت من هذا التنوع أن أكون أكثر إنصاتًا للطبيعة
وللإنسان، وأكثر وعيًا بأهمية الانتماء، لا كقيد، بل كمصدر غني للتعبير، والبيئة
العُمانية بتعدديتها تمدّني دومًا بطاقة تجدد رؤيتي، وتدفعني للاستمرار في الحفر
في الطبقات العميقة لذاكرتنا الجميلة، لأقدّم فنًّا ينبض بالحياة والهوية معًا”.

وفيما يتعلق باختياره الرسم المائي والزيتي يقول الرسام: “وجدت في
الألوان المائية ما يشبه العلاقة الصوفية بين الفنان والأثر، فهي خامة لا تحتمل
التراجع، شفافة وصادقة، لا تقبل التزييف أو الإخفاء، كما أنها ترتبط بالماء،
والماء هو أصل الحياة، وركنٌ أساسي في البيئة العُمانية، ولهذا السبب استهوتني هذه
الخامة، ووجدت فيها التعبير الأقرب مني، خصوصًا حين أقف أمام منظر طبيعي متغيّر في
ضوءه وألوانه وتنفسه”.

‎ويضيف: ” أنا أومن أن
الفن الحقيقي ليس في الأداة بل في الرؤية، والتكنولوجيا تمنحنا اليوم أدوات
تعبيرية جديدة، وإذا أحسن الفنان توظيفها، يمكنه أن يعيد إنتاج هويته البصرية بروح
عصرية دون أن يفقد أصالته، وما أحرص عليه دائمًا هو أن تحمل أعمالي، سواء كانت
يدوية أو رقمية، تلك اللمسة العُمانية، وذلك الحس النابع من الجغرافيا والبيئة
والناس”، مؤكدًا على أن ‎الفن
الرقمي ليس نقيضًا للفن التقليدي، بل هو امتداد له، وإذا تم التعامل معه بوعي
وذائقة، يمكن أن يكون جسرًا لنقل الثقافة المحلية إلى فضاء عالمي أوسع، دون أن
يُجرّدها من خصوصيتها.

‎وأكد المعمري على أن
المادة الفنية ليست مجرد وسيلة تقنية، بل هي شريك في التعبير، تحمل بداخلها طاقة
خاصة، وتؤثر بشكل مباشر في نوع الرسالة التي يحملها العمل الفني قائلًا :”حين
أختار الألوان المائية، فأنا أختار الشفافية، والهشاشة، واللحظة العابرة تلك التي
تختفي بسرعة كما تظهر، لذلك غالبًا ما أستخدمها حين أرغب في توصيل إحساس بالحياة
اليومية، أو تأمل في الطبيعة، أو استحضار لحظة من الهدوء العميق، في المقابل حين
أستخدم الخشب، أو الزيت، أو حتى خامات مختلطة، فإنني أستدعي طبقات أعمق من الزمن
والمادة، أعبّر عن الثقل والرسوخ والاستمرارية، فالخامة لا تنفصل عن الموضوع، بل
تتفاعل معه وتتجلى فيه، وأحيانًا أختار خامة قاسية كي أصنع توتّرًا بصريًّا،
وأحيانًا أستخدم ملمسًا ناعمًا كي أدعو المتلقي إلى الدخول في حالة وجدانية
معينة”.

‎ويقول إن الفن التشكيلي،
في جوهره، ليس فقط وسيلة للتعبير الجمالي، بل هو حاملٌ للذاكرة، وسجلّ بصري
للتاريخ والثقافة والتجربة الإنسانية، ومن هذا المنطلق، فإن دوره يتجاوز حدود
اللوحة أو المنحوتة، ليصبح وثيقة ثقافية تمثّل جزءًا من الهوية الجماعية للمجتمع
في السياق العُماني، حيث تتنوع البيئات وتتشعب التقاليد وتتعمّق الجذور الحضارية،
ويصبح الفن ضرورة ملحّة لحفظ هذا الإرث الغني.

ويرى المعمري أنه حين يرسم الفنان مشهدًا من سوق شعبي، أو يوثق لحظة من
الحياة القروية، أو يصور لباسًا تقليديًّا أو حرفة مندثرة، فإنه لا يكتفي بتجميل
الواقع، بل هو يدوّن، ويوثق، ويبعث الحياة في ذاكرة المكان والناس، “هذه
الرسائل الصامتة التي يحملها العمل الفني، تدخل وجدان المتلقي دون أن تحتكم للغة
أو تفسير، بل تنفذ مباشرة إلى عمق الشعور، وتصنع رابطة وجدانية بين الماضي
والحاضر، وهنا تبرز أهمية التكامل بين رغبة الفنان في التعبير، ورغبة المتلقي في
التلقي، فالفنان يبحث عن الصدق والعمق والهُوية في ما يُنتج، والمتلقي – خصوصًا
المحلي – يبحث عن نفسه، عن صورة يرى فيها ملامحه وقيمه وتاريخه، وعندما يلتقي هذا
الطموح بين الطرفين، يتحول الفن إلى وسيلة تواصل عميقة، وإلى جسر يمتد بين
الأجيال”.

وفيما يتعلق بالهيمنة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي يتطرق المعمري إلى
هذا السياق قائلًا:” لم يعد الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا مستقبلية، بل أصبح
واقعًا حاضرًا ومتسارعًا، يقتحم مختلف مجالات الحياة، بما فيها الفنون، في البداية
قد يبدو أن هذه التقنيات تهدد جوهر العملية الإبداعية، لأنها تحاكي أدوات الفنان
وتنتج صورًا تبدو مذهلة في دقتها وتكوينها، لكنني أراها دعوة لإعادة تعريف الفن،
وتأكيد إنسانية الممارسة الفنية، والفن بالنسبة لي، لا يُقاس بإتقان الخط أو دقة
الظل والضوء فقط، بل بالصدق، بالعاطفة، وبالتجربة الإنسانية التي تقف خلفه، والعمل
الفني هو انعكاس لروح الفنان، لتأملاته، لتاريخه الشخصي، ولموقعه من العالم وما تفتقده
الآلة، مهما بلغت من تطور، إلا أنها يمكن أن تكون أداة مساعدة – وليست بديلة – إذا
ما أحسن الفنان توظيفها، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدّم أفكارًا بصرية، أو يساعد
في تصور تكوينات جديدة، أو يُستخدم في بعض مراحل التصميم.

وحول أثر المشاركات الداخلية والخارجية يوضح حديثه بالقول:” كل
تجربة فنية خاضها، كانت بمثابة صفحة جديدة أضيفت إلى كتاب ذاكرتي البصرية ولا أنظر
للمشاركة الفنية كحدث وقتي عابر، بل كفضاء من التفاعل، وتبادل الخبرات، والانفتاح
على رؤى ومدارس وأساليب مختلفة، تترك أثرها – مهما بدا بسيطًا – في تكوين الفنان،
وفي المعارض الدولية، رأيت كيف تنبثق الرؤى الفنية من بيئات مختلفة، ومع ذلك تلتقي
في شغفها بالتعبير عن الإنسان، واطلعت على أعمال تنطق بلسان الجغرافيا، وأخرى
تُحاور العالم بلغة التجريد، وتعلمت أن الفن حين يكون صادقًا، يُفهم مهما اختلفت
اللغات، وهذه المشاركات منحتني فرصة لأُعرّف العالم على الملامح العُمانية، ليس
فقط من خلال الشكل، بل من خلال الروح أيضًا، وكنت حريصًا دائمًا على أن تكون
أعمالي سفيرة لبلدي، تعرض جمالياتها، وتُجسّد مفرداتها البيئية والثقافية”.

وتطرق المعمري إلى النقد الفني إذ يرى أن المشهد التشكيلي العُماني يعاني
من غياب واضح للممارسة النقدية الجادة والمستدامة، “فالنقد الفني لم يرتقِ
بعد ليكون طرفًا فاعلًا في المعادلة الفنية، بل بقي – في كثير من الأحيان –
محصورًا في انطباعات عامة، أو مجاملات ثقافية، أو حتى صمت ثقيل لا يفسر ولا يُضيء،
والفنان بطبيعته في حالة تطور مستمر، يحتاج من يقرأ تجربته من الخارج، ومن يُشير
إلى مكامن القوة والضعف، من يُحفزه على إعادة التفكير، ويدفعه نحو تجاوز نفسه،
وهنا تأتي أهمية الناقد الحقيقي: ليس كحَكم، بل كمرافق بصري وفكري يُحلل ويقارن
ويطرح أسئلة جوهرية، ‎في المقابل،
فإن وجود حركة نقدية نزيهة، علمية، ومتخصصة، من شأنها أن ترفع من مستوى الوعي
الجمالي في المجتمع، وأن تُنتج حوارًا صحيًا بين الفنان والجمهور، وبين الفنان
والمؤسسة الثقافية، فالنقد الحقيقي لا يقف عند حدود النص البصري، بل يتجاوزه إلى
سياقاته الفكرية والاجتماعية، ويربط الفن بحركته في الزمن”.

ويبين الفنان أن ‎الفلسفة
التي يتبناها كفنان لا تهدف إلى إدهاش المتلقي بقدر ما تسعى إلى صنع مساحة شعورية
مشتركة معه وأن يرى في نفسه وذاكرته وانفعاله في الأعمال الفنية، قائلًا
“لهذا فإنني أطمح إلى أن تكون أعمالي ليست مجرد لوحات، بل حالات شعورية
مرئية، تفتح للمتلقي بابًا للتأمل، أو تحفّزه على الحنين، أو تجعله يتوقف قليلًا
ليفكّر، وأريد أن تبقى أعمالي في ذاكرة من يراها، موضحًا “الفن التشكيلي ليس
ترفًا ولا هامشًا، بل هو جزء من التكوين النفسي والاجتماعي للأمة، وقد رأينا كيف أسهمت
المدارس الفنية الكبرى عالميًا في تشكيل وعي شعوبها، وفي الدفاع عن قضاياها، وفي
سرد تاريخها من منظور غير رسمي لكنه أكثر إنسانية وصدقًا، ونحن في عُمان نملك من
الرصيد الحضاري والبصري ما يجعلنا قادرين على بناء مدرسة تشكيلية متفردة، تنطلق من
البيئة والإنسان والتجربة المحلية، لكنها تخاطب العالم بلغة الفن الكونية”.

‎ويشير الفنان التشكيلي فهد
بن سالم المعمري في ختام حديثه إلى أن تحقيق هذا التوازن بين رغبة الفنان والمتلقي
يبدأ من الإخلاص، من أن يكون العمل الفني نابعًا من واقع صادق، ومن أن يحمل سؤالًا
حقيقيًا لا مجرد إجابة مزخرفة وأنه حين يجد المتلقي في العمل الفني ذاته، أو
ماضيه، أو حتى حلمه، فإنه يرتبط به، ويصبح جزءًا من ذاكرته هو أيضًا.

/العُمانية/النشرة الثقافية/مازن



‫0 تعليق

اترك تعليقاً