طلال صالح بنان
ضرب الأسبوع الماضي أكبر وأغنى وأشهر مدينة في العالم (نيويورك) زلزال سياسي، فقد فاز سياسي مسلم شاب هندي الأصل هاجر من أوغندا مع والديه (أبٌ مسلم وأمٌ هندوسية)، إلى الولايات المتحدة، طلباً لما يُزعم بالحلم الأمريكي، وحصلوا على الجنسية عام ٢٠١٨. إنجاز سياسي كبير، أحرزه هذا الشاب المسلم المهاجر (زهران محمود ممداني)، في الانتخابات التمهيدية عن الحزب الديمقراطي، لتقلد منصب عمدة مدينة نيويورك، على المرشح الديمقراطي أندرو كومو، الحاكم السابق للولاية، الذي خرج من المنصب باتهامه بقضايا فساد.
أهمية هذا الحدث السياسي (الزلزال)، تتمحور حول بعده السياسي، ليس في كونه ربما يأتي بأول مسلم لحكم مدينة نيويورك، بل لكونه، في المقام الأول، حدثٌ يمكن وصفه بأنه (تاريخي وثوري) يطال قيم وحركة مؤسسات النظام السياسي الأمريكي.
صدمة الزلزال السياسي، الذي أحدثه فوز السيد ممداني، بترشيح الحزب الديمقراطي له في هذه الانتخابات التمهيدية، ليقابل المرشح الجمهوري في انتخابات المدينة لتقلد منصب عمدة نيويورك لفترة السنوات الأربع القادمة، نوفمبر القادم، أنه جاء نتيجةً لتحولات جذرية، غير مسبوقة، في قاعدة المجتمع الأمريكي العريضة، ممثلةً في الشباب والطبقة الوسطى والفقيرة، بعيداً عن تأثير ونفوذ النخب السياسية التقليدية والزعامات السياسية التاريخية.. والأهم: بعيداً عن تأثير رأس المال وطبقة المليارديرات، التي كانت تُطْبِقُ تاريخياً عنوةً، بسطوةِ رأس المال، على المدينة ومقدراتها.
فاز السيد ممداني في تلك الانتخابات التمهيدية، بأكثر من ثماني نقاط على المرشح الديمقراطي أندرو كومو (٤٤.٥، ٣٦.٤)، على التوالي، في سابقة تاريخية لافتة، أنفق فيها على الدعاية أنصار السيد ممداني فقط ثمانية ملايين دولار جمعوها من قاعدة عريضة من الأفراد، ليس بينهم واحد ملياردير معروف ولا سياسي شهير، بينما أنفقت حملة السيد كومو ٣٢ مليون دولار جاء ربعها فقط من المليادير الأمريكي مايكل بلومبيرغ، عمدة سابق للمدينة! حتى كتابة هذا المقال لم يعرب عن تأييده، دعك تهنئته، بفوز السيد ممداني، لا زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفري، ولا زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، ولا حتى أيٍ من رموز الحزب الديمقراطي المعروفين، بينما شارك في الحملة الانتخابية للسيد كومو الرئيس الأمريكي (الديمقراطي) السابق (بل كلينتون).
الظاهرة اللافتة في هذه الانتخابات التمهيدية، ليس في كون تلك الانتخابات أحدثت زلزالاً مدوياً في التركيبة التقليدية لرموز عتاة الحزب الديمقراطي، بل إنها أحدثت زلزالاً أعمق وأشدُ أثراً وصدىً، في نظام القيم الأمريكي. لقد تحدى السيد ممداني محرمات سياسية كان لا يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منها إن هو أراد أن يمارس العمل السياسي. المنطقة الحرام الأولى تحدي نظام القيم السائد في النظام السياسي الأمريكي، الذي يقوم أساساً على القيم والممارسات اليمينية الرأسمالية المحافظة، التي تربط بين قيم الليبرالية في الحرية الفردية، بجناحيها السياسي والاقتصادي، بعيداً عن تدخل الدولة في العملية السياسية، ومقاومة أي فكر يساري اشتراكي، يعلي من قيمة المساواة، بين فئات المجتمع الأمريكي متعدد الأعراق والديانات والثقافات ومستويات التفاوت الاقتصادي المتباينة.
لم يتردد السيد ممداني في الإعلان عن أفكاره اليسارية، ومقاومة أي شكل من أشكاله المساومة على قيمها، التي يؤمن بها. هو يعلن: دون مواربة: أنه اجتماعي (اشتراكي) تقدمي ينحاز للفقراء والأقل حظاً في المجتمع، في مواجهة الأغنياء المليارديرات، الذين يتمترسون وراء القيم الليبرالية، بالذات شقها الرأسمالي. بصراحة، غير معهودة وعد الشاب ممنداني: بإدارة تقدمية اشتراكية لمدينة نيويورك، تجعل من المدينة أقل تكلفة متاح العيش فيها للجميع، مع شبكة مواصلات مجانية وسريعة.. وإعانات مجزية للطبقة الوسطى والأقل حظاً والفقيرة.. وتجميد الإيجارات، طوال فترة عموديته للمدينة.. وتحسين التعليم والخدمة الصحية والخدمات البلدية، تقديم إعانات مباشرة للأسر الكبيرة محدودة الدخل، كما طمأن مؤيديه أن ذلك لن يكلفهم شيئاً، بل سينفق على كل تلك الخدمات الاجتماعية من الضرائب التي يجمعها من الأغنياء، للإنفاق على برنامجه (الاشتراكي التقدمي).
المنطقة الحرام الثانية، التي تخطاها السيد ممداني، تحدي زعم معاداة السامية، الذي تفوق في درجة إلزامها، على قيم الليبرالية وحقوق الإنسان! كان صوت السيد ممداني مدوياً في إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة وجرائم الحرب، التي ترتكبها إسرائيل هناك.. وشجب الإبادة الجماعية لأهل غزة، وأيّد الدعوة لإقامة الدولة الفلسطينية. بل لقد ذهب بعيداً في تهديده لرئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) بأنه لو أصبح عمدةً للمدينة، فإنه سيعتقل نتنياهو، لو حدث ووطأت رجله تراب المدينة.
بهذه القوة والثقة في النفس وبدعم الإرادة العامة لسكان المدينة، لا عجب أن يصف السيد ممنداني نفسه، بأنه: أسوأ كابوس، يَقُضّ مضج الرئيس دونالد ترمب، الذي هدد باعتقال ممداني وترحيله، وحرمان المدينة من المخصصات المالية الفيدرالية.