لم يكن خبر استقالة المكتب السياسي في حزب الميثاق الوطني خطوة عابرة تُدرج في سجل التغييرات الحزبية الاعتيادية، بل هي في جوهرها رسالة سياسية عالية النبرة والمنهج، تُعيد التأكيد على أن هذا الحزب ليس حزبًا تقليديًا في الشكل أو الأداء، بل هو كيان يستعير في سلوكه عقل الدولة ومؤسسيتها. من “الاستقالة المنظمة” إلى إعادة التموضع الاستراتيجي: الميثاق يُمارس السياسة بعقل دولة في مرحلة يُعاد فيها تشكيل الوعي الحزبي في الأردن، بعد سنوات من التكلّس أو التجيير الأيديولوجي، يبدو “الميثاق” أكثر الأحزاب انضباطًا، وأكثرها فهمًا للمطلوب في هذه اللحظة: ليس الصوت المرتفع، ولا الحضور العشوائي، بل البناء التراكمي الهادئ المدروس.حين يُقدّم أعضاء المكتب السياسي استقالاتهم بشكل طوعي ومنسّق، فهم لا ينسحبون، بل يفتحون الباب لمرحلة ثانية من العمل الجماعي، تُؤسس لفكرة أن الحزب ليس حكرًا على الأسماء، بل وعاء متجدّد للكفاءات المتبادلة، وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية لا الشخصنة.حزب الميثاق، اليوم، وهو يتهيأ لإعادة التشكيل، لا يُعيد ترتيب مكتبه فقط، بل يُكرّس سلوكًا يُشبه سلوك مؤسسات الدولة حين تُدير لحظة تحوّل. الحزب لا يتفاعل بردّة الفعل، بل يبادر بالفعل المدروس، ويسير بعقل بارد، ونبض حارّ بالمسؤولية.في ظل الإقليم المشتعل: الحرب في غزة، اشتباك الظلال بين إيران وإسرائيل، القلق من تمدّد الحركات المتطرفة، وارتدادات المشهد الإقليمي على الداخل؛ تظهر أهمية الحزب الذي يشتبك بلغة الدولة لا بمنطق الشعبوية. الميثاق يُجيد التموضع في الزاوية التي تُفضّلها الدولة: زاوية الصلابة بلا استعراض، والمرونة بلا ارتباك، والانفتاح بلا تنازل.ولعلّ أكثر ما يستوقف النخبة السياسية اليوم، ليس حدث الاستقالة الجماعية لأعضاء المكتب السياسي في حزب الميثاق الوطني بحد ذاته، بل الرسائل المتراكبة التي تحملها هذه الخطوة: أن الحزب لا يُمارس السياسة بمنطق الاصطفاف أو المصلحة الآنية، بل بعقلية مؤسسية تُجيد قراءة لحظة الدولة لا لحظة الحزب فقط.الميثاق، وبهذا السلوك، لا يخرج من مألوف الأحزاب، بل يخرج من أسر التقليد الحزبي إلى وعي ما بعد التنظيم؛ حيث تُدار الأدوار لا تُحتكر، وتُدار المرحلة لا تُرتجل.ليس ناطقًا باسم السلطة، ولا ذيلاً لها، لكنه يعرف موقع الدولة ومكان الحزب، ويفهم بدقة أن الهامش الوظيفي للحزب لا يعني التمرّد، كما أن الولاء لا يعني التماهي.الاستقالة الجماعية ليست حدثًا إداريًا، بل أداة لإعادة التشكيل وفق مقتضى التحوّل، ومؤشر على أن الحزب يملك آلية داخلية للمراجعة لا تفرضها الصدمات، بل تنتجها البصيرة.وفي لحظة سياسية حذرة، على المستوى الإقليمي والدولي، من الحرب في غزة، إلى إعادة تشكيل المزاج الأمني الإقليمي، يبدو أن “الميثاق” فهم مبكرًا أن الاستقرار السياسي لم يعد وظيفة الدولة فقط، بل وظيفة الحزب الواعي، إذا أراد أن يكون ضمن نسيج القرار لا هامشه.وفيما تتلعثم بعض الأحزاب في أدبياتها، وتغيب عن إيقاع الدولة، يظهر “الميثاق” بوصفه واحدًا من قلائل يشتبكون مع الدولة لا ضدها، ويتكاملون معها لا يتقاطعون.إنها هوية حزبية هادئة لكنها متماسكة، تتحدث بلغة الدولة، وتحتكم إلى منطق التدرج، وتُعيد تصدير النخبة من داخلها لا على أطرافها.ليس في هذا الحدث مجرّد إدارة داخلية، بل فيه درس حزبي مكتمل: أن من يُجيد التموضع الوطني، لا يشتبك على المقعد، بل يبني الشرعية من التنازل عنه في الوقت المناسب.وحين تُبنى الأحزاب بهذا المنطق، فإنها لا تُنافس الدولة، بل تُعيد إنتاج مفهومها.وعندها فقط، لا يصبح السؤال: “أين هي الأحزاب من الدولة؟” مطروحًا، بل يُستبدل بسؤال أوضح: “أي الأحزاب صارت تشبه الدولة؟”والجواب حاضر…الميثاق، لا يزال الأقرب إلى عقل الدولة… وإلى ما تريده الدولة من السياسة.إخلاء مسؤولية:المحتوى المنشور يعبر عن وجهة نظر كاتبته الشخصية المبنية على متابعة وتحليل الموضوع، ولا يُمثل بأي شكل من الأشكال موقف أي جهة رسمية أو حزب سياسي. جميع المعلومات تم التحقق منها بعناية، إلا أن الكاتبة لا تتحمل أي مسؤولية عن أي استخدام غير صحيح أو تحريف للنص.