الكردي تكتب: عندما يتحول السن إلى جريمة ـ بقلم: جوان الكردي

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


في زمن يُفترض أنه يقدس العدالة والفرص المتكافئة، يتسلل تمييز من نوع مختلف إلى أروقة العمل والمؤسسات، لا يُصرَّح به علناً، لكنه حاضر بقوة في شروط التوظيف، وفي قرارات الاستغناء عن “الخدمات”، وفي نظرات مديري الموارد البشرية.. هو التمييز العمري، حين يقصى الإنسان فقط لأن عداد سنوات عمره تجاوز الأربعين أو الخمسين، حتى وإن كان في أوج عطائه، ونضجه، وخبرته.صفحات الوظائف والمنح التدريبية تكشف كل يوم عن واقع قاس: الغالبية العظمى من الفرص موجهة للفئة العمرية من ٢٣ إلى آخر الثلاثينات، وفي أحسن الأحوال إلى الأربعين. وكأن الأربعيني لم يعد صالحاً للإنتاج، وكأن الخمسيني عبء على سوق العمل، وكأن الستينيّ صفحة انتهت صلاحيتها.نهاية مفاجئة لأدوار لم تكتملوتزداد القسوة حين يُخرج الإنسان فقط من فرص جديدة، بل يُنتزع من موقعه القديم أيضاً، من خلال “التقاعد المبكر” الذي لا يأتي بطلب منه، بل أحيانا يفرض عليه، فيجد نفسه فجأة بلا عمل، وبلا فرصة، وبلا اعتبار.في كثير من مؤسساتنا، يحال الموظف إلى التقاعد قبل أن يبلغ السن القانوني، ليس لأنه لم يعد قادراً على العطاء، بل لأن المؤسسة قررت تقليص النفقات، أو “توظيف الكفاءات الشابة”.. فهي خسارة مزدوجة: يقصى وهو في أوج طاقته، ومؤسسة تفقد موظف خبرة يزيد عطاء المؤسسة.المُحال إلى التقاعد القسري لا يعود موظفا، ولا يعامل كمتقاعد. يعلق في الفراغ، تسحب منه هويته المهنية، ويحكم عليه بالجلوس في البيت، متأرجحا بين الإحباط والحيرة، وبين الحاجة للعمل ورفض السوق له.الخبرة تهمةما يدعو للأسى أن بعض أصحاب العمل يرفضون تعيين أصحاب الخبرة، لا لنقص في مهاراتهم، بل لأنهم “مؤهلون أكثر من اللازم” أو “تجاوزوا السن المقبول”. هل أصبح النضج العقلي والمهني عبئا؟ هل تُستبدل ٢٥عاماً من الخبرة بشهادة تخرج حديثة تحت شعار “الشباب أولى”؟.في واقعنا، يتجاهل تماماً أن الفئة العمرية بين الأربعين والستين غالباً ما تكون في قمة قدرتها على التفكير الاستراتيجي، والقيادة، والتعامل مع المواقف المعقدة. هي الفئة التي ترى الصورة الكاملة، وتدير الوقت والموارد والعلاقات بوعي وخبرة.حتى في عالم الشركات العملاقة، شهدت أمازون وآبل تحولات مفصلية حين قادها أشخاص تجاوزوا الأربعين، . فكيف نجرؤ على اعتبار هذه الفئة “منتهية صلاحيتها” عندنا.مفارقة مؤلمةالغريب والمثير للتساؤل أن هذا الإقصاء لا يطاول الجميع. فكم من وزير أو نائب أو عين أو مدير عام أو رئيس مجلس إدارة، تجاوز الستين وربما السبعين، وينظر إليه باعتباره “أهل الخبرة والرؤية”؟ لماذا يمنح الكبار في المناصب امتياز البقاء والتقدير وإعادة التدوير لأي منصب، بينما يحرم مواطن قيادي بحجة العمر؟هل الذكاء والخبرة محصورة في المناصب فقط؟ ولماذا يفرَض التقاعد المبكر على الموظف، بينما تمدد العقود وتفتح الأبواب لكبار المسؤولين حتى وإن تجاوزوا سن التقاعد؟ هل نعيش فعلاً في وطن يكافئ بناء على العدالة، أم على الانتقاء والتصنيف والمحسوبية والعلاقات؟ورقة منسية وصرخة مكتومةالمؤلم في هذه الظاهرة ليس فقط الظلم المهني، بل ما يتبعه من أثر نفسي واجتماعي. من كان بالأمس موظفا منتجا يُحتفل بإنجازاته، يصبح اليوم جالسا في زاوية بيته، يطالع الفراغ، ويسأل نفسه بصمت: هل انتهيت؟وتتضاعف المأساة حين تكون الضحية امرأة، أرملة أو مطلقة، أماً أفنت عمرها في التربية، أو زوجة دعمت أسرتها، ثم حين أرادت أن تبدأ، وجدت أن العمر صار ضدها، وأن النظام لا يعترف بها إلا كرقم.التقدير لا يقاس بسنوات الشباب فقط، بل بسنوات البذل. المطلوب اليوم هو ثقافة جديدة، لا تقصي الإنسان كلما كبر، بل تحتضنه، وتعيد توظيف طاقاته، وتمنحه دوراً جديد يليق به. أن نخلق برامج تأهيل للمرحلة الثانية من العمر، ومسارات عمل مرنة، وفرصا استشارية وتدريبية لمن يمتلكون كنوزا من التجربة.لعل أقسى ما يواجه الإنسان ليس التقاعد، بل أن يشعر أنه لم يعد يحتسب.. أن يرى الأبواب تغلق بوجهه فقط لأنه لم يعد شابا، وأن ينسى وهو لا يزال قادرا على العطاء.العمر ليس نهاية، بل بداية مختلفة..فهل نعمل على إصلاح نظام يقصي العقل ويهدر الخبرة؟وهل ندرك أخيراً أن التقدم في العمر ليس تهمة بل شرف خدمة وتجربة يجب أن تستثمر، لا أن تستبعد؟!هل نعيد التفكير؟



‫0 تعليق

اترك تعليقاً